والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب، وهاجروا إلى الحبشة، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.
بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.
وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!
نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.